قصه الجنرال
كانوا ينادونه في القرية بـ “الچنرال”. لم يعرف أحد من أين جاء هذا اللقب، ولا كيف التصق بفتى لم يلمس بندقية في حياته. لكنه كان يمشي شامخًا، يرفع رأسه كأن فوق كتفيه نياشين خفية، ويحدّث الناس بعينين حادتين لا تعرفان التردد.
وُلد سالم في بيت طيني عند طرف القرية. كان أصغر إخوته، وأضعفهم جسدًا، لكنه الأقوى خيالًا. حين يجتمع الأطفال للعب بالحصى أو الجري خلف الماعز، كان هو يصنع من عيدان القصب جنودًا، يرتّبهم في صفوف متقنة ويصدر لهم أوامر وهمية:
– “أنت على اليمين، لا تتحرك إلا بإشارة!”
ضحك عليه الصغار في البداية، ثم شاركوه اللعبة. شيئًا فشيئًا، صار هو قائدهم، يرسم لهم خطط “المعارك” في الحقول، ويوزّع الأدوار كأنه يملك عقل قائد حربي حقيقي.
مرّت السنوات، وسالم يكبر، لكن اللقب يكبر معه أسرع. صار الناس ينادونه “الچنرال” تهكمًا أحيانًا، وإعجابًا أحيانًا أخرى. فهو لم يعرف الخوف يومًا. إذا تشاجر فتيان، تدخل ليحلّ النزاع. وإذا ضاعت عنزة، كان أول من يخرج للبحث عنها. بدا كأنه يمتلك شجاعة غير مبررة، وكأن خياله الطويل في الطفولة قد صنع منه نسخةً مختلفة عن باقي شباب القرية.
لكن الحقيقة ظهرت في ليلة مظلمة من ليالي الشتاء.
تجمّعت الغيوم أيّامًا، ثم هبط المطر فجأة كأنه عقاب. ارتفع السيل من الجبال وانقضّ على القرية الصغيرة، فصرخ الناس، هرعوا في الظلام يبحثون عن مأوى، بينما كانت المياه تجرف الأبواب والأشجار وحتى الماشية.
وسط الارتباك، ارتفع صوته.
لم يكن صوته كأي صوت آخر؛ كان قويًا، آمرًا، يحمل نبرة تجعل القلب يصدّق أنه يعرف الطريق. صرخ سالم:
– “إلى السطح! اصعدوا جميعًا! النساء والأطفال أولًا!”
توقف الناس، لحظة صمت قصيرة، ثم تبعوه. صار يقودهم بلا تردد، كأنه تدرب على هذه اللحظة طوال حياته. صعد بالنساء إلى البيوت العالية، وحمل الأطفال على كتفيه واحدًا تلو الآخر، وأشار بيده إلى طرق جانبية تجنّبهم مجرى السيل. لم يناقشه أحد، ولم يتخلف أحد.
حين طلع الفجر، كانت القرية منهكة، غارقة بالمياه، لكن أغلب أهلها نجوا. التفتوا حول سالم، بملابس مبللة ووجوه مرهقة، ينظرون إليه بدهشة. لم يعد لقب “الچنرال” نكتة أو سخرية. لقد صار حقيقة، لا بالرتب ولا بالسلاح، بل بالشجاعة التي أنقذت حياة العشرات.
منذ ذلك اليوم تغيّر كل شيء. صار الأطفال يجلسون حوله في الأمسيات، يطلبون منه أن يحكي قصصه. لم يكن يحكي عن معارك الجيوش ولا عن الأسلحة، بل عن الشجاعة والإيمان والوقوف مع الآخرين وقت الخطر. كان يبدأ دائمًا بنفس الجملة:
– “الچنرال الحقيقي ليس من يملك جيشًا، بل من يعرف كيف يحمي ناسه.”
وهكذا عاش سالم قائدًا بلا بزّة عسكرية، وبطلًا بلا حروب، لكنه ترك أثرًا لا يزول في ذاكرة قريته… أثر رجل آمن بأن القيادة ليست سلطة، بل مسؤولية


تعليقات
إرسال تعليق